جورج طرابيشي من الوعي التراجيدي إلى المعذب مقاربة جمالية في مسارات الفكر العربي.
الُمقدِّمة (مدخل منهجي):
هل يمكنُ قراءة الفكر العربي باستخدام مفاهيم النقد الجمالي؟ وهل تستوعب القيمة الجمالية التجربة الفكرية والسياسية؟ وبسؤال آخر، هل يُؤرَّخُ الفكرُ بمفاهيم النقد الجمالي، فيُستخلَص منه قيمة مهيمنة (البطولي، والتراجيدي والمعذب…) تعكس في حضورها حركة الفكر والواقع؟ وهل من أدبيَّة تخصُّ الفكر أو الفلسفة مثلما نجد في أدبيَّة الرواية أو المسرح أو الشعر؟
بناء على التساؤلات السابقة ينطلق البحث من تطبيق النقد الجمالي على الفكر العربي بهدف استكشاف القيم الجمالية المهيمنة على التجربة الفكرية، ومن مسعى التأريخ النقدي لحركة الفكر العربي برهاناته وانتكاساتها مفترضين على نحو خاص أن القيمة الجمالية هي انعكاس لحركة الواقع الاجتماعي والسياسي، وتحولاتها تعكس متغيرات هذا الواقع. فالبطولي مثلًا يتزامن مع صعود طبقات جديدة، ويُعبرُ عن رهاناتها السياسية وطموحاتها الاجتماعية، في حين أن الهزلي والتافه غالبًا ما يرتبط بالطبقة السياسية الاجتماعية الزائلة والفاقدة لمشروعيتها التاريخية في الفترات التي يسود فيها الصراع الثوري، قد تظهر قيمة التراجيدي كونهُ تعبيرًا عن الواقع الدرامي للصراع بين القوى الاجتماعية، أما فشل التحولات الثورية في مرحلة معينة فقد ينعكس قيميًا بـ (المعذَّب).
وإن درجَتْ دراساتٌ عِدَّة على تطبيق النقد الجمالي في المجال الفني بعامة والأدبي بخاصة، فإنَّ دراستنا تسعى في تمديد هذا التطبيق صوب التجربة الفلسفية أو الفكرية بعمومها، فتتبنَّى منهجيًا المقاربة الجمالية (Aesthetic Approach) * لتوظفها في سياق تشخيص الفكر العربي بسياقاته الاجتماعية والسياسية والجمالية. إنَّ هذا التمديد يجد مسوِّغه في شمولية التجربة الجمالية، فوَفق توصيف هيجل، فإن الجمالي ** بوصفه القيمة العليا التي تستوعب مختلف القيم (الجميل والجليل والتراجيدي والمعذَّب) هو أشبه بـ “الجني الأنيس الذي نصادفه في كل مكان”[1]، إذ نراه متداخلًا ومُتلبِّسًا ببقية أشكال الوعي الإنساني: الأسطوري والديني والفلسفي، مما يجعل دراسة الوعي الجمالي في مرحلة ما دراسة لعصارة الوعي السائد فيها.
إزاء ذلك يتخذُ البحث من مشروع (جورج طرابيشي) الفكري موضوعه، ومن المقاربة الجمالية إجراءً منهجيًا، ومن التراجيدي والمُعذَّب مدخلًا مفهوميًا، فيضع البحث افتراضين أساسيين: إنَّ مشروع (جورج طرابيشي) الفكري يعكسُ ضمنيًا مشروعًا اجتماعيًّا سياسيًّا جمعيًّا، ويعبِّرُ عن رهاناته وانتكاساته، إضافة إلى أنه يعكس تحولًا نوعيًّا قيميًّا انتقل فيه من مجال الوعي التراجيدي الصراعي إلى مجال الوعي المُعذَّب الاستلابي، هذا التحول القيمي يعبِّرُ عن تبدلات جوهرية في مسار الفكر العربي وطموحاته، إذ يفترضُ البحث ترابط القيمة الجمالية بسياق التحولات الاجتماعية والسياسية.